إن أحدى مشكلات منهج التفكير الإسلامي المعاصر: أن الأمة تفتقد إلى النظرة الشاملة والربط بين الأحداث. وإلاّ يكنْ ذلك يظل أعداؤها يقذفون بأنظارها ومشاعرها كما يقذف اللاعبون بالكرة .. فإذا توجهت إلى قضية نسيت الأخرى، وإذا وضعت يدها على شيء ألقت ما عداه، وإذا عُرض أمامها مشهد غفلت عن غيره.
ومن هنا تظهر أهمية وضع الانتفاضة في سياقها التاريخي؛ فنجمع شتات القضايا ومشاهدها في قصة واحدة.
كما أن من عيوب الأمة في أجيالها المتأخرة: أنها تضيع كنوزها التي يمنُّ الله بها عليها، وقد عبر عن ذلك أحد الباحثين الأمريكان في تعليق على اغتيال الإمام
حسن البنا رحمه الله، فقال "هكذا الشرق دائماً يضيع كنوزه" فليس النفط الكنـز الوحيد المضيع، فأهم منه وأغلى: إرادة الحياة الإيمانية، وحب الشهادة، والثبات على الحق، وهي كنوز جمعها الله لنا في هذه الانتفاضة المباركة فأرجو أرجو ألا نضيعها!!
وكما أن الانتفاضة معلم تاريخي مهم هي أيضاً معمل ومحضن لتجديد الدين، وإحياء روح الإيمان، وتوحيد مواقف الأمة، فهل رأيتم شيئا أحياها ووحدها مثلَ هذه الانتفاضة وما تلاها من أحداث تابعة؟
وهل وقف المجاهد الفلبيني مع المجاهد الفلسطيني في خندق واحد قبل هذه المرة؟
الانتفاضة هي التي قلبت حال الشعوب -في مسيرة الصحوة والتجديد- فبعد أن كانت الحركات الدعوية والجهادية تلوم الشعوب على غفلتها، و تخطط و تجتهد لإيقاظها، نجدها اليوم-أي: الشعوب- هي التي تلوم الحركات الإسلامية -وليس الحكام فقط- وتعدها مقصرة في الواجب، ألم يصرخ أحد قادة مخيم
جنين: " أين الذين يقولون الموت في سبيل الله أسمى أمانينا "؟!
ألم يصل الشعور بالقهر والمطالبة بالتحرك إلى أسفل طبقات الأمة: فيصرخ بذلك الممثلون والمغنون وأشباههم؟!
وأعظم من ذلك: أن الانتفاضة-وتوابعها- كشفت القناع عن وجوه الأعداء من أهل الكتاب والمشركين والمنافقين والعلمانيين، وكل أنواع الخبَث في الأمة، فلو أنفقت الأمة ملايين الملايين، وألقت آلاف الخطب من أجل إبانة سبيل المجرمين، وكشف عداوة أهل الكتاب والمشركين، وفضح خبايا المنافقين، لما حققت مثل ما حققته الانتفاضة، بفضل الله وتوفيقه.
كم من البسمات تعلو شفاهنا ونحن نقرأ- في كشف عداوة
أمريكا- ما يكتبه أقوام كانوا إلى الأمس القريب معدودين من عملائها وأبواقها.
بل إن الأمر تعدى الكتاب إلى الحكام -وهم عند الشعوب أكثر تهمة!!- فمن مِن حكام العرب اليوم يجرؤ على أن يقول ما قاله سلفهم عن الثقة في
أمريكا وصداقة
أمريكا، وأن (99%) من أوراق اللعبة بيد
أمريكا؟!
الواقع أن كثيراً منهم لم يتردد في التصريح بالحقيقة فمن قائل: بأن
أمريكا هي العدو الحقيقي، ومن قائل: إن هدف
أمريكا الإسلام وليس النفط، ومن قائل: بأنها تريد تركيع الأمة وتتعامى عن الحل العادل، وأقل ما قيل عنها: إنها تتعامل بمعايير مزدوجة!!
وإن مما يوجب بيان حقيقة الانتفاضة وأهميتها: أن كثيراً من المسلمين يتعاطفون مع أهداف الانتفاضة عموماً، لكنهم لا يدركون حقيقة الانتفاضة وأثرها العظيم وموقعها التاريخي، وكثير منهم ينخدعون بالإعلام اليومي -عربياً وغربياً- الذي يشدد دائماً على العنف الصهيوني، والخسائر في الجانب الفلسطيني، فيبدو إيقاف الانتفاضة وكأنه رحمة بإخواننا الفلسطينيين وفرصة لالتقاط النفس، وربما يتساءل كثيرون: ما جدوى الاستمرار في دفع هذه التكاليف الباهظة؟
حتى حين تقع عملية ناجحة بكل المعايير يأتي التعليق عند هؤلاء: "ولكن هذا سيؤدي إلى انتقام شديد"!!
إن عرض التألم والتكاليف من جانب واحد تفصيلاً، وإجمال القول عند الحديث عن خسائر العدو؛ هو في الحقيقة حملة نفسية موجهة يرتِّب لها العدو، و يسايره مخدوعاً من لا يدرك الحقائق، أو لا يملك الوقت وعدة النظر للبحث عنها، وهذا يتفق مع اتجاه القيادات العربية الحكومية التي رضخت منذ أمد بعيد للهزيمة والاستسلام، لكنها تغلف ذلك بإيقاف العنف، والعودة للمفاوضات، ورفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني!!
إن الانتفاضة فجر جديد يراه أهل البصيرة زاحفاً على ليل المعاناة الطويل، أما الذين استمرءوا الذل فإن على أبصارهم غشاوة كتلك الغشاوة التي كانت على أبصار سلفهم الذين كانوا يظنون أن الإمبراطورية البريطانية خالدة إلى الأبد، ومن قبلهم لم يصدق زعماء الكفر الجاهلي ما تنبأ به "
هرقل" نفسه، بل قال قائلهم: "لقد أَمِـرَ أمْرُ محمد حتى إنه ليخافه ملك بني الأصفر".
ولذلك يتعين على أهل الشأن، ومن يُهمّه تثبيتُ الأمة، وطردُ الإحباط واليأس عنها: أن يكشفَ وجه الحقيقة من خلال ربط الأحداث اليومية بأصولها الكلية المطابقة لسنن الله في التمكين والعلو والإدالة والاستدارج، وهذا ما سوف أحاول الإشارة إليه في هذه العجالة لعل الله تعالى يجعلها تذكيراً للباحثين والمراقبين لإظهار هذه الحقائق بشكل دائم.
وقد جعلتها في شكل قواعد كلية، وأصول عامة مأخوذة من كتاب الله تعالى وسننه الثابتة في الكون، وفصلتها بحيث يمكن للمتابع فيما بعد أن يضع تحت كل أصل ما يرى من جزئيات وشواهد قد تقع لاحقاً .. بل قد يفتح الله عليه بقواعد وأصول أخرى، فالبحث مفتوح، والأحداث مستمرة، والواجب علينا قائم دائم، والاجتهاد لفهم القضية وتوجيه المسار حتم ٌلازمٌ.